وأما الشعراء فحالهم في كل الأزمنة والعصور واحد، وحالهم يدل على أنهم ليسوا ممن تتنزل عليهم الملائكة، أو تحدثهم، أو تلقى إليهم، وسيأتينا موضوع التحديث أو الإلهام، فللملك لمة، وللشيطان لمة على قلب ابن آدم ، فهؤلاء ليس كلامهم من جنس ما تلقيه الملائكة؛ إلا من استثنى الله منهم: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، إذاً فهم من أكثر الناس غواية إذا كان يتبعهم الغاوون.
(( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ))[الشعراء:225]، وهذا مما يفترق به كلام النبوة عن كلام هؤلاء، فاقرأ كلام أي نبي من أنبياء الله فإنك تجده لا يتناقض ولا يتغير، فهو حق كله، ويصدق بعضه بعضاً، ومهما كثر كلام الأنبياء فإنك تجده في موضوع واحد وهو: تحقيق العبودية لله ظاهراً وباطناً، وإصلاح وتزكية النفس، لكن لو نظرت إلى كلام الشعراء فإنك تجدهم في كل واد يهيمون، فيمدح أحدهم الشيء اليوم ويهجوه غداً، ويتكلم بكلام الفلاسفة في موضوع، وبكلام الساقطين في موضوع آخر، وبكلام الساسة في موضوع آخر، وبكلام العلماء في موضوع آخر، فيتكلم في أي موضوع، وكل ديوان شعر تجده أنواعاً وأخلاطاً، ولا يبالي أحدهم أن يذم ما مدح، أو أن يمدح ما ذم بالأمس فهذا وارد عنده، وهذا يدل على أنه ليس وحياً، وليس حقاً مطرداً إلا من استثناهم الله؛ لأنهم ربطوا قلوبهم بالوحي، (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ))[الشعراء:227]، لأن ذكر الله يزيل ما يلقى في القلب مما جاء في الحديث: ( لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً ) أي: من هذا الشعر الذي لا خير فيه، فذكر الله يجعل كلامهم وشعرهم حقاً. فالفرق واضح بين هؤلاء.
والشبهة التي قد تدخل على بعض الناس ويجعلون المجنون ولياً هي المكاشفة، وأنه أخبر بأشياء، فنقول: إن هذا من جنس ما يلقيه الشيطان إلى الكهان.
يقول شيخ الإسلام: (مثل أن يراه وقد أشار إلى واحد فمات أو صرع). وهذا طبيعي؛ لأن شيطانه المتلبس به عندما يشير إلى رجل آخر، فإنه يرسل جنداً من جنوده -ونحن لا نراهم- فيصرع ذلك الرجل، فيقولون: هذا ولي من أولياء الله.
يقول: (فإنه قد علم أن الكفار من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات، وتصرفات شيطانيه كالكهان، والسحرة، وعباد المشركين، وأهل الكتاب).
فهؤلاء لهم تصرفات شيطانية، ومما ذكره العلماء ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، وهو مذكور قبله في التاريخ: أن النصارى كانوا يستخدمون السحر في أعيادهم؛ حتى يبرهنوا للعوام على أن دينهم حق، فيجتمعون يوم العيد ويقولون: إن العذراء تتنزل، فيرسمون صورة، وهذه الصورة تكون من خيوط مدهونة بزيت، فإذا أشعل فإنه يتحول إلى نور، ولكن لا تأكله النار، فتظهر صورتها، فإذا اجتمعوا يأتي الراهب الساحر الدجال فيقدح فتشتعل، فتظهر الصورة، فيقولون: تنزلت علينا العذراء، وأمثال ذلك من الحيل التي هي من البشر، فما بالك بما كان من حيل الشياطين! فأي إنسان يستطيع أن يفعل مثل هذه الأمور إذا عرف سر خواص بعض المواد التي جعلها الله فيها؛ كأن تكون تشتعل أو لا تشتعل أو ما أشبه ذلك، فلو كانت العبرة بالمكاشفات أو المخاطبات أو نحو هذه الأمور لكان دين النصارى ، ودين اليهود حق والعياذ بالله، ونحن لا نشك أن هذا باطل.
يقول: (فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله، وإن لم يعلم منه ما لا يناقض ولاية الله؛ فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله)! أي: لو كان لا يناقض الولاية كأن يكون من أهل الدين، ومن أهل الصلاة؛ لكنه يصرع فتتلبس به الشياطين فيقول أشياء من هذا القبيل؛ فلا تعتقد أنه ولي، فكيف إذا كان ممن يعتقد ما يضاد وينافي الولاية؛ كأن يكون ممن يترك الجمعة والجماعات، ويخالط الأجنبيات، ويتقرب ويتعبد بالسماع والدفوف وما أشبه ذلك في الحضرات، فهذا أصل مخالف للشرع، فكيف يظن أنه ولي في حال تلبس الشيطان به؟!
يقول: (فمثل هؤلاء من لا يعتقد وجوب اتباع النبي باطناً وظاهراً) بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، كما يقول بعضهم: إن الناس يجب عليهم أن يتبعوا الشريعة في الظاهر، وأما في الباطن فيتبعون الحقيقة، فيميزون بين الشريعة والحقيقة، وبين الظاهر والباطن، أو يعتقد أن لأولياء الله طريق إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام، وهذا لا يمكن أن يكون ولياً لا في حال صحوه، ولا في حال جنونه من باب أولى.
يقول: (أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، وهذا كفر، ويريد أن يعبد الناس الله كما يشاءون؛ كما هو حال البوذيين وغيرهم ممن يرون أن المهم هو أن يتقرب إلى الله، وهذه هي دعوى الماسونية في العصر الحديث، فهي تتستر تحت ما يسمى بوحدة الأديان، وأن الأديان كلها حق، وأن الإنسان يعبد الله كما يشاء، وهذا كله باطل معلوم البطلان من الدين بالضرورة.
قال: أو يقول: إنهم قدوة العامة دون الخاصة، وأما من بلغ درجة اليقين وأصبح يخاطب -أي: يكاشف- فلا يقتدي بالأنبياء في العبادة والعياذ بالله، وهذا قول كثير من الطوائف منهم غلاة الصوفية ، و الباطنية ، و القرامطة ، و المتفلسفة وأمثالهم الذين يرون أن الأنبياء وشرائعهم إنما جاءت للعامة، وأما الخاصة فعندهم الحكمة أو كلام الحكماء، فكل فرقة وطائفة لها دين ومصدر.
وهذا يشبه من وجه ما يتردد الآن من أن الدين والإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك بسنته ظاهراً وباطناً يصلح للعصور القديمة أي: عصور ما قبل هذه النهضة الحديثة كما يدعون، أو التطور الصناعي الحديث، أو الحضارة الغربية، فما قبل ذلك يمكن أن يتدين الناس، وأما بعد ذلك فلا يصلح له هذا الدين، وقريب من هذا قول من قال: إن الدين للعامة دون الخاصة، والفرق أن هؤلاء يرون أن الخصوصية جاءت من الزمن ومن الحضارة، وأما أولئك فيرون أنه حتى في ذلك الزمن هناك عامة وهناك خاصة، وهذا كله كفر، وتكذيب لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوله أحد بذلك ويظل على إيمانه فضلاً عن أن يكون ولياً لله.